28 - 06 - 2024

معبر رفح – محكمة لاهاي | إلى أين تمضي علاقات القاهرة مع تل أبيب ؟

معبر رفح – محكمة لاهاي | إلى أين تمضي علاقات القاهرة مع تل أبيب ؟

لا ينتبه الكثيرون - و هذا أمر غريب - إلى أن الجمهورية الأولى في مصر لم تكن هي صاحبة أول قرار بالمواجهة العسكرية مع الدولة العبرية التي أعلنت في مايو 1948 ، و أنها لم تكن أيضا البادئة في مسلسل التفاوض مع هذه الدولة. 

إن الحروب و المفاوضات التي خاضتها الجمهورية الأولى في مصر مع تل أبيب لم تكن إلا قطعا متصاعدا في المنحنى الذي أخذ يرتسم مع نشوب حرب فلسطين ، و توقيع اتفاقات رودس للهدنة التي أعقبتها ، و المفاوضات التي باشرتها الخارجية المصرية لاحقا مع هذه الدولة ؛ تحت إدارة وزير الخارجية الوفدي محمد صلاح الدين . و من الموثق أن الجمهورية الأولى في مصر كانت قريبة في مناسبة واحدة - على الأقل - من الوصول إلى تسوية سياسية للنزاع مع الدولة العبرية قبل حرب أكتوبر ، و توقيع اتفاقيتين لفض الاشتباك العسكري بعدها ، وصولا إلى اتفاقيتي كامب ديفيد في 1978.  

و المؤكد أن العقود الثلاثة الأخيرة في حياة الجمهورية الأولى كانت اختبارا طويل الأمد لقدرة العلاقات بين القاهرة و تل أبيب على التطور، و الانتقال إلى الحالة التي صاغتها مواد معاهدة السلام المبرمة بين الطرفين في 1979 . واقعيا ؛ لم يحدث هذا مطلقا . و ما حدث أن جوانب عملياتية محددة لمنع الحرب ، و الفصل الحاسم بين القوات ، و تمديد فض الاشتباك إلى أمد غير محدد ، و خفض مستوى التهديد المتبادل ، و توازن النفوذ ، و كبح جماح السلوكات العدائية ؛ جرى إرساؤها ، و تعمقت أحيانا ، و بيّنت جدواها في الإبقاء على وضعية ليست بالخبيثة من الاستقرار و الهدوء النسبي ؛ على المستوى الإقليمي و عبر الحدود ؛ مع وجود استثناءات تعود - في مجملها - إلى طبيعة النظام العسكري/ السياسي للدولة العبرية ، و إلى أيدلوجيته الكامنة فيه ، و المسيطرة على مؤسساته . 

و على جانب آخر لم يرَ واضعو الدساتير المصرية أية ضرورة - في أي وقت من الأوقات - لوصف قواعد ثابتة ملزمة للسياسة الخارجية لمصر تجاه الدولة العبرية أو غيرها ، فكان يتم الاكتفاء دائما بإثبات المسلمات و الآليات الأساسية التي تنطلق منها و تتنفذ بواسطتها تلك السياسة على وجه العموم . و طوال الوقت لم تكن الدولة المصرية بحاجة إلى تأكيد التزامها المدوّن دستوريا بالمعاهدات و المواثيق التي هي طرف فيها ؛ باستثناء الفترة التي أدارت فيها المؤسسة العسكرية شؤون البلاد ، و عبر إعلان دستوري مؤقت ؛ صدر في فبراير 2011 ؛ بعد تفجر ثورة الخامس و العشرين من يناير .   

و من دون الخوض في تشريحات تحليلية مرهقة ؛ يمكن القول - بناء على ما تقدم - إن فكرة ديمومة الصراع و الاشتباك المحتمل مع الطرف الآخر ، و التهديد الدائم الذي يمثله كل طرف للآخر ؛ هي فكرة راسخة في العقيدة " العسكرية " للدولتين المصرية و العبرية ، و إنها تعبر عن نفسها بصورة مضمرة في الدساتير المصرية ، و بصورة سافرة في برامج الأحزاب اليهودية في الدولة العبرية ، و في القوانين و اللوائح التي تحكم تنظيم جيشها و عقيدته الاستراتيجية .

و هكذا نستطيع أن نفهم - في هذا السياق تحديدا - حيثيات التفاعلات الحادثة في مجريات العلاقات بين الطرفين ، و ما يحيط بها بين وقت و آخر من ملابسات خارقة ؛ من مثل الادعاء بتسهيل رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو قبل سنوات مشتروات سلاح للقوات البحرية المصرية ؛ استنادا إلى دوافع استراتيجية ! و من مثل النزاع الآخذ الآن في الصعود بشأن ممر صلاح الدين الموازي للحدود المصرية مع فلسطين التاريخية – على امتداد قطاع غزة – الذي لا يمكن الاختلاف حول أسس و ترتيبات السيطرة عليه ، و على معبر رفح المشرف عليه ؛ بحكم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، و اتفاقية قطاع غزة و منطقة أريحا التي وقعت بين حكومة إسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية في مايو 1994 ، و بروتوكول الترتيبات المتعلقة بالمنافذ الذي ألحق بها في أكتوبر من العام نفسه ، و التعديلات التي عززت عملية السيطرة تلك لصالح الجانب المصري ؛ بعد الانسحاب أحادي الجانب لإسرائيل من قطاع غزة في العام 2005 . 

***

لم تتغير الرؤية الاستراتيجية المصرية للدولة العبرية منذ لحظة ميلادها ، و ليس هناك ما يدعو أو يوجب أو يبرر الحاجة إلى تغيير كهذا في المستقبل القريب أو البعيد . و في المقابل ؛ يتزايد مع التحولات الهائلة و التغييرات الصادمة في المشهدين الدولي و الإقليمي ؛ الطابع العدواني التوسعي الإحلالي للدولة العبرية ، و تقترب هذه الدولة حثيثا – قانونيا و مؤسسيا و عمليا – من التوحد الكامل مع العقيدة الرؤيوية التي نشأت عليها ، و هنا يبرز كمثال دالٍ قانون " يهودية الدولة " ، و تركيبة الائتلاف الحاكم في إسرائيل منذ نهاية ديسمبر 2022 ، و ما يجري في قطاع غزة في الوقت الحاضر من عمليات تدمير و إبادة تستهدف - بدون أدنى التباس - ترحيل الفلسطينيين من القطاع ؛ كجزء من عملية شاملة لإنشاء ما يسمى بإسرائيل الكبرى في حدود رؤية من يسمون بالصهاينة الأدنويين .  

و يقودنا هذا الاستنتاج إلى نتيجة حاكمة تخص مسار العلاقة بين الطرفين ؛ مؤداها أن جوهر الصراع الذي يتراوح بين أوضاع كثيرة - هو الفكرة التي يحملها كل منهما عن ذاته ، و طبيعة الدور الذي يحدده لنفسه بناء عليها ، و حجم المكانة التي يتمتع بها جراء قيامه بهذا الدور . 

إن تأمل هذه النتيجة يمكّن من تعيين ما يمكن تسميته بالجوانب العملياتية الجوهرية " الملموسة " للعلاقات بين القاهرة و تل أبيب بوضوح ؛ بما يسمح بفهم التفاعلات الحادثة في مجرياتها منذ سقوط الجمهورية الأولى في مصر ، و في المستقبل المنظور . 

في المقام الأول ؛ يجب أن يكون مفهوما أن القرارات المتعلقة بالعلاقات مع تل أبيب - حتى في ظل واقع افتراضي يكتمل فيه بناء الركائز المنطقية لجمهورية جديدة في مصر ؛ و نعني بذلك نظاما سياسيا ديمقراطيا يرسخ مبدأ سيادة القانون موضوعيا و يصون حقوق الإنسان عمليا - تبقى اختصاصا حصريا للمؤسسة العسكرية ، و الأجهزة المعلوماتية المعاونة لها ؛ مع أو بدون انتماء رئيس السلطة التنفيذية إليها . و هذا جانب له أهمية مطلقة ، و تأثير قاطع في السياق . 

ثانيا ؛ و في موازاة ما تقدم ؛ يستمر الرأي العام في مصر الذي يمنح المؤسسة العسكرية ثقته المطلقة كحامية لتراب الوطن و مصالحه في مواجهة التهديدات ، و يقبل على مضض بعلاقات رسمية مع الدولة العبرية - يستمر على موقفه الممانع الذي لا يخفي معارضته لتطوير أو تطبيع هذه العلاقات ؛ بدون إنهاء الاحتلال المتطاول للأراضي الفلسطينية ، و قطع سيطرة الدولة العبرية المطلقة على مدينة القدس .   

ثالثا ؛ يرتبط ارتباطا وثيقا بما سلف ضرورة التواجد المصري المباشر أو غير المباشر في قطاع من الأراضي الفلسطينية على طول الساحل الشرقي للمتوسط ؛ قريبا من بلدة المَجْدَل وصولا إلى الحدود المصرية ، و هو تواجد له أصول تاريخية عتيدة ، و يبقى عملياتيا و جغرافيا على تماسّ مع قضاء الخليل جنوب الضفة الغربية ، و يسهم بشكل حاسم في إدارة هذه العلاقات . و نعني بذلك ما عرف بعد حرب فلسطين بقطاع غزة الذي يمثل - في الوقت الحاضر ، و يتعين أن يظل -قوة مقاتلة مسلحة ضاربة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ؛ معرّضة لأدنى قدر من الضغوط الإقليمية و الدولية .    

رابعا ؛ يفيد سيناريو الصراع الذي تجسد إلى الآن بين الطرفين ؛ بأن ردود الأفعال المصرية على الممارسات العدائية الفجّة للدولة العبرية بحق سورية و لبنان - هي ردود حاضرة أيّا كان وضع الصراع ، و يصعب القفز عليها ، أو تجاوز تبعاتها ، أو التعامي عنها من جانب تل أبيب ، و هو أمر لم يتغير منذ لحظة انطلاق الصراع ، و تؤكد حقيقة ثباته الكثير من التفاعلات القريبة و البعيدة في سياق العلاقات بين الطرفين ، و من ذلك التهديد الذي طال سورية في 1967 ليتطور سريعا إلى حرب واسعة كانت مصر طرفا رئيسيا فيها ، و سحب السفير المصري في تل أبيب و تجميد العلاقات التي كانت بدأت للتوّ معها ؛ نتيجة للعدوان الصهيوني على لبنان 1982 .  

خامسا ؛ توجد إمكانية دائمة – و إن كانت ليست قاطعة – للإبقاء على حالة الهدوء بين الطرفين بعديد الوسائل ، بدءا بالضامن الموثوق من قبل الطرفين ، و الاستعانة بالمراقبين ، و نزع السلاح الموضعي ، و انتهاء بإجراء تعديلات على الاتفاقات المبرمة . و كلها وسائل استخدمت منذ بدء الصراع ، و المثال الأحدث عليها هو إعادة النظر في الترتيبات الخاصة بالقوات المصرية في المناطق المحددة في بروتوكول الانسحاب الملحق بمعاهدة السلام ؛ حتى تتمكن القوات المسلحة و قوات العمليات الخاصة الشرطية من مواجهة المجموعات الإرهابية المسلحة في شمال سيناء .    

سادسا ؛ فتحت التفاعلات المتراكمة في مجريات العلاقات بين الطرفين نطاقا مؤثرا للمعنيين من الجانب المصري للتحرك على مسرح السياسة و في ميدان الأعمال في الدولة العبرية ، ما أوجد ظاهرة جديدة تنمو باضطراد في هذه الدولة يمكن تسميتها بالتنافس على مصر ، و هي ظاهرة تشبه - إلى حد بعيد - سلوك الساسة و العسكريين و رجال الأعمال و الباحثين و غيرهم في الدولة العبرية حيال الزعماء و القادة و مؤسسات الحكم ؛ في واشنطن .  

سابعا ؛ تظل سياسة الدولة العبرية في إدارة العلاقات مع مصر - باعتبارها آلية رسمية و مقننة لكسب الصراع على المدى الطويل - على حالها ، و هي تقوم على أسس ثابتة من أهمها : السعي إلى الحضور / السيطرة على نقاط  المرور و الوثوب الجيواستراتيجية في الإقليم ، و الاستمرار في العمل طبقا لاستراتيجية شدّ الأطراف الإقليمية من القوميات غير العربية ؛ إضافة إلى محاولة النيل من قدرة القاهرة على ضبط إيقاع العلاقات العربية مع تل أبيب ، و تنويع و تشديد حدة العمل السرّي الذي يستهدف الدولة المصرية على جميع المحاور . 

***

الواضح مما تقدم أن المؤسسة العسكرية المصرية - حتى في ظل المشكلات التي تواجهها الدولة المصرية ، و ربما بسببها - مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى في تحدي الرغبة الإسرائيلية في السيطرة على ممر صلاح الدين ؛ خاصة مع إدراكها لحقيقة الارتباط بين هذه الرغبة ، و مخطط تهجير الفلسطينيين القاطنين في قطاع غزة ، و المشروعات المتعلقة بتهيئة و تفعيل مسارات بديلة للنقل و الإمداد تنهي القيمة الآستراتيجية لقناة السويس ، و تعصف بركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي المصري . 

و تحدي هذه الرغبة بمجرد الإشارة إلى الاعتبارات القانونية التعاقدية بين الجانبين مع فتح معبر رفح " نظريا " ؛ لا يكفي وحده لتأكيد ما أسميناها بالجوانب العملياتية الجوهرية " الملموسة " للعلاقات المصرية مع تل أبيب ؛ فمقتضيات الأمن القومي المصري تستوجب مواجهة عملية سريعة للتهديد الإسرائيلي للوجود الفلسطيني في قطاع غزة ؛ عبر تعطيل حرية المرور الآمن بدون عوائق على معبر رفح ؛ و ليس الانتظار حتى ينتهي رئيس الحكومة الإسرائيلية من تدمير ما بقي من بنية تحتية و عمران في قطاع غزة ، و من ثم البدء بتفريغ القطاع من سكانه . 

حتما ؛ تستطيع دوائر التخطيط و العمليات في المؤسسة العسكرية المصرية التي اتخذت إجراءات لتجنب و منع الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي في ظل الوضع القائم ؛ و التي لا تراهن بكل تأكيد على صمود الفلسطينيين في غزة إلى ما لا نهاية – أن تقدم حلولا لدعم هذا الصمود ؛ حتى تجعل الصدام العسكري بين القاهرة و تل أبيب المؤكد حال تحرك الفلسطينيين مهجرين عبر الحدود مع مصر ؛ أمرا مستبعدا مع بقائهم على الأرض و على قيد الحياة !   

أن تفادي الحرب مع تل أبيب على خلفية ما يجري من أحداث هو قرين منعها من تهيئة الظروف الدافعة إلى تهجير الفلسطينيين ؛ بمعنى فعل كل ما يلزم لتثبيت الفلسطينيين على الأرض ، و في مقدمة ذلك فتح معبر رفح " عمليا " ، باستثمار قرار محكمة لاهاي الجمعة قبل الماضي ؛ سواء بالطرق الديبلوماسية أو حتى العسكرية ، إذ بات هذا الإجراء متاحا بدون مخاطر كبيرة على حالة العلاقات بين الطرفين ؛ كون إسرائيل تغلق هذا المعبر من الجانب الفلسطيني عن طريق القوة المسلحة ، و التلويح بالتوسع في استخدامها ، و هذا عمل يؤدي إلى جريمة إبادة جماعية ؛ حسب ما يفيد قرار المحكمة.
---------------------------
بقلم : عبد المجيد إبراهيم 
[email protected] 

      

مقالات اخرى للكاتب

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :





اعلان